فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)}
وقوله تعالى: {جِدَالَنَا}: قرأ ابن عباس {جَدَلنا} كقوله: {أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54]. ونقل أبو البقاء أنه قرئ {جَدَلْتَنا فأَكْثرت جَدَلَنَا} بغير ألفٍ فيهما قال: وهو بمعنى غَلَبْتَنا بالجدل وقوله: {بِمَا تَعِدُنَا} فيجوز أن تكونَ {ما} بمعنى الذي، فالعائدُ محذوفٌ، أي: تَعِدَناه. ويجوز أن تكونَ مصدريةً، أي: بوعدك إيانا. وقوله: {إنْ كنت} جوابُه محذوف أو متقدِّم وهو {فَأْتِنا}.
{وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)}.
قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ}: قد تقدم حُكْمُ توالي الشرطين وأنَّ ثانيَهما قيدٌ في الأول، وأنه لابد من سَبْقه للأول. وقال الزمخشريُّ هنا: {إن كان اللَّه} جزاؤُه ما دلَّ عليه قولُه: {لا ينفعكم نُصْحي}، وهذا الدليلُ في حكم ما دلَّ عليه، فوُصِل بشرطٍ، كما وُصِل الجزاء بالشرط في قوله إنْ أَحْسَنْتَ إليَّ أحسنتُ إليك إنْ أمكنني.
وقال أبو البقاء: حكمُ الشرطِ إذا دَخَل على الشرط أن يكون الشرطُ الثاني والجواب جوابًا للشرط الأول نحو: إنْ أَتَيْتني إنْ كلَّمتني أَكْرَمْتك فقولُك إنْ كَلَّمْتني أكرمتُك: جوابُ إن أتيتني جميعُ ما بعده، وإذا كان كذلك صار الشرطُ الأول في الذِّكْرِ مؤخَّرًا في المعنى، حتى إنْ أتاه ثم كلَّمه لم يجب الإِكرام، ولكن إنْ كلَّمه ثم أتاه وَجَبَ الإِكرام، وعلةُ ذلك أن الجواب صار مُعَوَّقًا بالشرط الثاني، وقد جاء في القرآن منه: {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي} [الأحزاب: 50].
قلت: أمَّا قولُه: {إنْ وَهَبَتْ... أن أراد} فظاهره وظاهرُ القصةِ المَرْوِيَّةِ يدل على عدم اشتراطِ تقدُّم الشرط الثاني على الأول، وذلك أن إرادتَه عليه السلام للنكاح إنما هو مُرَتَّبٌ على هِبة المرأةِ نفسَها له، وكذا الواقعُ في القصة لمَّا وَهَبَت أراد نكاحَها، ولم يُرْوَ أنه أراد نكاحَها فوهبت، وهو يحتاج إلى جوابٍ، وسيأتي هذا إن شاء اللَّهُ في موضِعِه.
وقال ابن عطية هنا: وليس نُصحي لكم بنافع، ولا إرادتي الخيرَ لكم مُغْنيةً إذا أراد اللَّه تعالى بكم الإِغواء، والشرطُ الثاني اعتراض بين الكلام، وفيه بلاغةٌ من اقتران الإِرادتين، وأن إرادة البشرِ غيرُ مُغْنيةٍ، وتعلُّقُ هذا الشرطِ هو بنصحي، وتعلُّقُ الآخر بلا ينفع.
وتلخص من ذلك أن الشرطَ مدلولٌ على جوابه بقوله: {ولا ينفعكم} لأنه عَقِبُه، وجوابُ الثاني أيضًا ما دلَّ على جواب الأول، وكأنَّ التقدير: وإنْ أَرَدْتُ أن أنصحَ لكم إن كان اللَّه يريد أن يُغْوِيَكم فلا يَنْفعكم نصحي. وهو مِنْ حيث المعنى كالشرط إذا كان بالفاء نحو: إن كان اللَّهُ يريدُ أن يُغْويكم فإن أَرَدْتُ أن أنصح لكم فلا ينفعكم نُصْحي.
وقرأ الجمهور {نُصْحي} بضم النون وهو يحتمل وجهين، أحدهما: المصدريةُ كالشُّكر والكُفْر. والثاني: أنه اسمٌ لا مصدر. وقرأ عيسى ابن عمر {نَصْحي} بفتح النون، وهو مصدرٌ فقط.
وفي غضون كلام الزمخشري: إذا عرف اللَّهُ وهذا لا يجوز؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى لا يُسْنَدُ إليه هذا الفعلُ ولا يُوصف بمعناه، وقد تقدَّم علةُ ذلك غيرَ مرةٍ. وفي غضون كلام الشيخ وللمعتزليِّ أن يقول: لا يتعيَّن أن تكون {إنْ} شرطيةً بل هي نافيةٌ والمعنى: ما كان اللَّه يريد أن يُغْويكم. قلت: لا أظنُّ أحدًا يرضى بهذه المقالة وإن كانت توافق مذهبه.
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)} قوله تعالى: {فَعَلَيَّ إِجْرَامِي}: مبتدأ وخبرٌ أو فعلٌ وفاعل. والجمهورُ على كسرِ همزة إجرامي وهو مصدر أجرم، وأجرم هو الفاشي، ويجوز جَرَمَ ثلاثيًا وأنشدوا:
طَريدُ عشيرةٍ ورهينُ ذَنْبٍ ** بما جَرَمت يَدي وجَنَى لساني

وقرئ في الشاذ: {أجرامي} بفتحها، حكاه النحاس، وخَرَّجه على أنه جمعُ جُرْم كقُفْل أَقْفال، والمراد آثامي. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)}
أوضح لهم من البراهين مالوا أنعموا النظر فيه لتمَّ لهم اليقين، ولكنهم أصروا على الجحود، ولم يقنعوا من الموعود بغير المشهود.
{قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33)}
أقَرَّ بالعبودية، وتَبرَّأ عن الحول والقوة، وأحال الأمرَ على المشيئة. ولقد أنصف مَنْ لم يُجَاوِزْ حَدَّه في الدعوى. والأنبياء عليهم السلام- وإن كانوا أصحاب التحدي للناس بمعجزاتهم فهم معترفون بأنهم موقوفون عند حدودهم.
{وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)}
مَنْ لم يُساعده تعريفُ الحقِّ- بما له بحكم العناية- لم ينفعه نُصْحُ الخَلْقِ في النهاية.
ويقال مَنْ لم يُوَصِّلْه الحقُّ للوصال في آزله لم ينفعه نُصْحُ الخَلْقِ في حاله.
ويقال مَنْ سَبَقَ الحُكْمُ له بالضلالة أَنَّى ينفعه النصحُ وبَسْطُ الدلالة؟
ويقال من لم تساعدْه قسمةُ السوابق لم ينفعه نُصْحُ الخلائق.
قوله: {إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ}: من المحال اجتماع الهداية والغواية؛ فإذا أراد اللَهُ بقوم الغواية لم يصح أن يقال إنهم من أهل الهداية.
ثم بيَّن المعنى في ذلك بأن قال: {هُوَ رَبَّكُمْ} لِيَعْلَم العالِمون أَنَّ الربَّ تعالى له أن يفعل بعباده ما شاء بحكم الربوبية.
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)}
ومهما وصفتموني فإني أُجِيبُ اللّهَ ** وكُلٌّ مُطَالَبٌ بفعله دون فِعْلِ صاحبِه

. اهـ.

.تفسير الآيات (36- 37):

قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما فرغ من هذه الجملة التي هي المقصود بهذا السياق كله وإن كانت اعتراضية في هذه القصة، رجع إلى إكمالها بيانًا لأن نوحًا عليه السلام كان يكاشف قومه بجميع ما أمر به وإن عظمت مشقته عليهم بحيث لم يكن قط موضع رجاء لهم في أن يترك شيئًا منه وتحذيرًا لكل من سمع قصتهم من أن يحل به ما حل بهم فقال: {وأوحي} أي من الذي لاموحي إلا هو وهو ملك الملوك: {إلى نوح} بعد تلك الخطوب: {أنه لن يؤمن} بما جئت به: {من قومك إلا من} ولما كان الذي يجيب الإنسان إلى ما يسأله فيه يلوح عليه مخايل قبل الإجابة يتوقع السائل بها الإجابة، قال: {قد آمن فلا} أي فتسبب عن علمك بأنه قد تم شقاءهم أنا نقول لك: لا: {تبتئس} أي يحصل لك بؤس، أي شدة يعظم عليك خطبها بكثرة تأملك في عواقبها: {بما كانوا} أي بما جبلوا عليه: {يفعلون} فإنا نأخذ لك بحقك منهم قريبًا، وكأنه كان أعلمه أنهم إن لم يجيبوه أغرقهم وأنجاه ومن معه في فلك يحملهم فيه على متن الماء فقال: {واصنع الفلك} حال كونك محفوظًا: {بأعيننا} نحفظك أن تزيغ في عملها، وجمع مبالغة في الحفظ والرعاية على طريق التمثيل: {ووحينا} فنحن نلهمك أصلح ما يكون من عملها وأنت تعلم ما لنا من العظمة التي تغلب كل شيء ولا يتعاظمها شيء، فلا تهتم بكونك لا تعرف صنعتها؛ وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن الله أوحى إليه أن يصنعه مثل جؤجؤ الطائر- أي صدره.
وأشار إلى شفقته على قومه وحبه لنجاتهم كما هو حال هذا النبي الكريم مع أمته فقال: {ولا تخاطبني} أي بنوع مخاطبة وإن قلت: {في الذين ظلموا} أي أوجدوا الظلم واستمروا عليه في أن أنجيهم؛ ثم علل النهي بأن الحكم فيهم قد انبرم فقال: {إنهم مغرقون} قد انبرم الأمر بذلك؛ والابتئاس: حزن في استكانة، لأن أصل البؤس الفقر والمسكنة؛ والوحي: إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء، وقد يكون إفهامًا من غير كلام بإشارة ونحوها، وقد يكون بكلام خفي؛ والفلك: السفينة، يؤنث ويذكر، واحده وجمعه سواء، وأصله الإدارة من الفلكة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)}
فيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما جاء هذا من عند الله تعالى دعا على قومه فقال: {رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّارًا} [نوح: 26] وقوله: {فَلاَ تَبْتَئِسْ} أي لا تحزن، قال أبو زيد: ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه، وأنشد أبو عبيدة:
ما يقسم الله أقبل غير مبتئس ** به وأقعد كريمًا ناعم البال

أي غير حزين ولا كاره.
المسألة الثانية:
احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في القضاء والقدر وقالوا: إنه تعالى أخبر عن قومه أنهم لا يؤمنون بعد ذلك، فلو حصل إيمانهم لكان إما مع بقاء هذا الخبر صدقًا، ومع بقاء هذا العلم علمًا أو مع انقلاب هذا الخبر كذبًا ومع انقلاب هذا العلم جهلًا والأول ظاهر البطلان لأن وجود الإيمان مع أن يكون الإخبار عن عدم الإيمان صدقًا، ومع كون العلم بعدم الإيمان حاصلًا حال وجود الإيمان جمع بين النقيضين، والثاني أيضًا باطل، لأن انقلاب خبر الله كذبًا وعلم الله جهلًا محال، ولما كان صدور الإيمان منهم لابد وأن يكون على هذين القسمين وثبت أن كل واحد منهما محال كان صدور الإيمان منهم محالًا مع أنهم كانوا مأمورين به، وأيضًا القوم كانوا مأمورين بالإيمان ومن الإيمان تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه.
ومنه قوله: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ من قد آمن} فيلزم أن يقال: إنهم كانوا مأمورين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون ألبتة.
وذلك تكليف الجمع بين النقيضين، وتقرير هذا الكلام قد مر في هذا الكتاب مرارًا وأطوارًا.
المسألة الثالثة:
اختلف المعتزلة في أنه هل يجوز أن ينزل الله تعالى عذاب الاستئصال على قوم كان في المعلوم أن فيهم من يؤمن أو كان في أولادهم من يؤمن، فقال قوم: إنه لا يجوز.
واحتجوا بما حكى الله تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال: {رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26، 27] وهذا يدل على أنه إنما حسن منه تعالى إنزال عذاب الاستئصال عليهم، لأجل أنه تعالى علم أنه ليس من يؤمن، ولا في أولادهم أحد يؤمن.
قال القاضي وقال كثير من علمائنا: إن ذلك من الله تعالى جائز وإن كان منهم من يؤمن.
وأما قول نوح عليه السلام: {رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّارًا} فذلك يدل على أنه إنما سأل ذلك من حيث إنه كان في المعلوم أنهم يضلون عباده ولايلدون إلا فاجرًا كفارًا وذلك يدل على أن ذلك الحكم كان قولًا بمجموع هاتين العلتين، وأيضًا فلا دليل فيه على أنهما لو لم يحصلا لما جاز إنزال الإهلاك، والأقرب أن يقال: إن نوحًا عليه السلام لشدة محبته لإيمانهم كان سأل ربه أن يبقيهم، فأعلمه أنه لا يؤمن منهم أحد ليزول عن قلبه ما كان قد حصل فيه من تلك المحبة، ولذلك قال تعالى من بعد: {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} أي لا تحزن من ذلك ولا تغتم ولا تظن أن في ذلك مذلة، فإن الدين عزيز، وإن قل عدد من يتمسك به، والباطل ذليل وإن كثر عدد من يقول به.
{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)}
واعلم أن قوله تعالى: {إِنَّهُ لَن يُؤْمِنَ قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ} [هود: 36] يقتضي تعريف نوح عليه السلام أنه معذبهم ومهلكهم، فكان يحتمل أن يعذبهم بوجوه التعذيب، فعرفه الله تعالى أنه يعذبهم بهذا الجنس الذي هو الغرق، ولما كان السبيل الذي به يحصل النجاة من الغرق تكوين السفينة.
لا جرم أمر الله تعالى بإصلاح السفينة وإعدادها، فأوحى الله تعالى إليه أن يصنعها على مثال جوجؤ الطائر.
فإن قيل: قوله تعالى: {واصنع الفلك} أمر إيجاب أو أمر إباحة.
قلنا: الأظهر أنه أمر إيجاب، لأنه لا سبيل له إلى صون روح نفسه وأرواح غيره عن الهلاك إلا بهذا الطريق وصون النفس عن الهلاك واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ويحتمل أن لا يكون ذلك الأمر أمر إيجاب بل كان أمر إباحة، وهو بمنزلة أن يتخذ الإنسان لنفسه دارًا ليسكنها ويقيم بها.
أما قوله: {بِأَعْيُنِنَا} فهذا لا يمكن أجراؤه على ظاهره من وجوه: أحدها: أنه يقتضي أن يكون لله تعالى أعين كثيرة.
وهذا يناقض ظاهر قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِى} [طه: 39] وثانيها: أنه يقتضي أن يصنع نوح عليه السلام ذلك الفلك بتلك الأعين، كما يقال: قطعت بالسكين، وكتبت بالقلم، ومعلوم أن ذلك باطل.
وثالثها: أنه ثبت بالدلائل القطعية العقلية كونه تعالى منزهًا عن الأعضاء والجوارح والأجزاء والأبعاض، فوجب المصير فيه إلى التأويل، وهو من وجوه: الأول: أن معنى: {بِأَعْيُنِنَا} أي بعين الملك الذي كان يعرفه كيف يتخذ السفينة، يقال فلان عين على فلان نصب عليه ليكون منفحصًا عن أحواله ولا تحول عنه عينه.
الثاني: أن من كان عظيم العناية بالشيء فإنه يضع عينه عليه، فلما كان وضع العين على الشيء سببًا لمبالغة الاحتياط والعناية جعل العين كناية عن الاحتياط، فلهذا قال المفسرون معناه بحفظنا إياك حفظ من يراك ويملك دفع السوء عنك، وحاصل الكلام أن إقدامه على عمل السفينة مشروط بأمرين أحدهما: أن لا يمنعه أعداؤه عن ذلك العمل.
والثاني: أن يكون عالمًا بأنه كيف ينبغي تأليف السفينة وتركيبها ودفع الشر عنه، وقوله: {وَوَحْيِنَا} إشارة إلى أنه تعالى يوحي إليه أنه كيف ينبغي عمل السفينة حتى يحصل منه المطلوب.
وأما قوله: {وَلاَ تخاطبنى في الذين ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مغرقون} ففيه وجوه: الأول: يعني لا تطلب مني تأخير العذاب عنهم فإني قد حكمت عليهم بهذا الحكم، فلما علم نوح عليه السلام ذلك دعا عليهم بعد ذلك وقال: {رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّارًا} [نوح: 26] الثاني: {وَلاَ تخاطبنى} في تعجيل ذلك العقاب على الذين ظلموا، فإني لما قضيت إنزال ذلك العذاب في وقت معين كان تعجيله ممتنعًا، الثالث: المراد بالذين ظلموا امرأته وابنه كنعان. اهـ.